سورة الأعراف - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأعراف)


        


{وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168)}
قوله تعالى: {وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً} أي فرقناهم في البلاد. أراد به تشتيت أمرهم، فلم تجمع لهم كلمة. {منهم الصالحون} رفع على الابتداء. والمراد من آمن بمحمد عليه السلام. ومن لم يبدل منهم ومات نسخ شرع موسى. أو هم الذين وراء الصين، كما سبق. {وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ} منصوب على الظرف. قال النحاس: ولا نعلم أحدا رفعه. والمراد الكفار منهم. {وَبَلَوْناهُمْ} أي اختبرناهم. {بِالْحَسَناتِ} أي بالخصب والعافية. {وَالسَّيِّئاتِ} أي الجدب والشدائد. {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} ليرجعوا عن كفرهم.


{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (169)}
قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} يعني أولاد الذين فرقهم في الأرض. قال أبو حاتم: {الخلف} بسكون اللام: الأولاد الواحد والجميع فيه سواء. و{الخلف} بفتح اللام البدل، ولدا كان أو غريبا.
وقال ابن الأعرابي: {الخلف} بالفتح الصالح، وبالجزم الطالح. قال لبيد:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم ***
وبقيت في خلف كجلد الأجرب ومنه قيل للرديء من الكلام: خلف. ومنه المثل السائر {سكت ألفا ونطق خلفا}. فخلف في الذم بالإسكان، وخلف بالفتح في المدح. هذا هو المستعمل المشهور. قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله». وقد يستعمل كل واحد منهما موضع الآخر. قال حسان بن ثابت:
لنا القدم الأولى إليك وخلقنا *** لأولنا في طاعة الله تابع
وقال آخر:
إنا وجدنا خلفا بئس الخلف *** أغلق عنا بابه ثم حلف
لا يدخل البواب إلا من عرف *** عبدا إذا ما ناء بالحمل وقف
ويروى: خضف، أي ردم. والمقصود من الآية الذم. {وَرِثُوا الْكِتابَ} قال المفسرون: هم اليهود، ورثوا كتاب الله فقرءوه وعلموه، وخالفوا حكمه وأتوا محارمه مع دراستهم له. فكان هذا توبيخا لهم وتقريعا. يأخذون عرض هذا الأدنى ثم أخبر عنهم أنهم يأخذون ما يعرض لهم من متاع الدنيا لشدة حرصهم ونهمهم. {وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا} وهم لا يتوبون. ودل على أنهم لا يتوبون. قوله تعالى: {وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} والعرض: متاع الدنيا، بفتح الراء. وبإسكانها ما كان من المال سوى الدراهم والدنانير. والإشارة في هذه الآية إلى الرشا والمكاسب الخبيثة. ثم ذمهم باغترارهم في قولهم {سَيُغْفَرُ لَنا} وأنهم بحال إذا أمكنتهم ثانية ارتكبوها، فقطعوا باغترارهم بالمغفرة وهم مصرون، وإنما يقول سيغفر لنا من أقلع وندم. قلت: وهذا الوصف الذي ذم الله تعالى به هؤلاء موجود فينا. أسند الدارمي أبو محمد: حدثنا محمد بن المبارك حدثنا صدقة بن خالد عن ابن جابر عن شيخ يكنى أبا عمرو عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: سيبلى القرآن في صدور أقوام كما يبلى الثوب فيتهافت، يقرءونه لا يجدون له شهوة ولا لذة، يلبسون جلود الضأن على قلوب الذئاب، أعمالهم طمع لا يخالطه خوف، إن قصروا قالوا سنبلغ، وإن أساءوا قالوا سيغفر لنا، إنا لا نشرك بالله شيئا.
وقيل: إن الضمير في {يَأْتِهِمْ} ليهود المدينة، أي وإن يأت يهود يثرب الذين كانوا على عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عرض مثله يأخذوه كما أخذه أسلافهم. قوله تعالى: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} فيه مسألتان. الأولى: قوله تعالى: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ} يريد التوراة. وهذا تشديد في لزوم قول الحق في الشرع والأحكام، وألا يميل الحكام بالرشا إلى الباطل. قلت: وهذا الذي لزم هؤلاء واخذ عليهم به الميثاق في قول الحق، لازم لنا على لسان نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكتاب ربنا، على ما تقدم بيانه في النساء. ولا خلاف فيه في جميع الشرائع، والحمد لله.
الثانية: قوله تعالى: {وَدَرَسُوا ما فِيهِ} أي قرءوه، وهم قريبو عهد به. وقرأ أبو عبد الرحمن وادرسوا ما فيه فأدغم التاء في الدال. قال ابن زيد: كان يأتيهم المحق برشوة فيخرجون له كتاب الله فيحكمون له به، فإذا جاء المبطل أخذوا منه الرشوة وأخرجوا له كتابهم الذي كتبوه بأيديهم وحكموا له.
وقال ابن عباس: {أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} وقد قالوا الباطل في غفران ذنوبهم الذي يوجبونه ويقطعون به.
وقال ابن زيد: يعني في الأحكام التي يحكمون بها، كما ذكرنا.
وقال بعض العلماء إن معنى {وَدَرَسُوا ما فِيهِ} أي محوه بترك العمل به والفهم له، من قولك: درست الريح الآثار، إذا محتها. وخط دارس وربع دارس، إذا امحى وعفا أثره. وهذا المعنى مواطئ- أي موافق- لقوله تعالى: {نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ 10} الآية. وقوله: {فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ}. حسب ما تقدم بيانه في البقرة.


{وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)}
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ 170} أي بالتوراة، أي بالعمل بها، يقال: مسك به وتمسك به أي استمسك به. وقرأ أبو العالية وعاصم في رواية أبي بكر {يمسكون} بالتخفيف من أمسك يمسك. والقراءة الأولى أولى، لأن فيها معنى التكرير والتكثير للتمسك بكتاب الله تعالى وبدينه فبذلك يمدحون. فالتمسك بكتاب الله والدين يحتاج إلى الملازمة والتكرير لفعل ذلك.
وقال كعب بن زهير:
فما تمسك بالعهد الذي زعمت *** إلا كما تمسك الماء الغرابيل
فجاء به على طبعه يذم بكثرة نقض العهد.

32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39